لا بد لنا عند دراسة الأحكام التشريعية في القرآن الكريم من اعتبار التطور التشريعي ومراعاته لحاجات المجتمع إبان التنزيل ، كما لا بد من القول أن هذا التدرج ليس مقصوراً على "عصر التنزيل" وانما يتجاوز ذلك الى العصور كلها من خلال الاجتهاد ، ولا بد لنا من الانتقال من "عصر تنزيل الاحكام" الى "التنزيل العصري للاحكام" تنزيلا من شأنه ان يستوعب ما استجد للناس من أحوال ، ولنا في حكم الرق والاستعباد أكبر أنموذج على ذلك. فالامر لا يتوقف عند ايقاع عقوبة القتل بل يتجاوز ذلك الى البحث في عموم أشكال العقوبات التي أشارت إليها الشرائع الدينية في تاريخنا الانساني على وجه العموم .
الأسس التي يقوم عليها القول بإيقاف العقوبة بالقتل :
أولاً: الأصل في الإسلام هو درء العقوبات ، وذلك من خلال شروط مشددة يصعب الوصول إليها ، ولأن أحكام الإنسان يغلب عليها الظن فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال :"ادرأوا الحدود بالشبهات"، و الشبهة تعني الشك وعدم التأكد من وقوع الجريمة ، أو الشك بشرط من شروط إثباتها ، وهنا يجب على القاضي أن يسعى لدرئها،والنزول إلى عقوبات أدنى.
ثانيا: العقوبة بالقتل وانسجامها مقاصد الشريعة الإسلامية
تقوم الشريعة الإسلامية على خمس مقاصد أساسية في عموم أحكامها العملية ، وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال .
قال الإمام أبو حامد الغزالي: " ان مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. فكل من يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة. وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليها ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق."
ولو تأملنا في هذه المقاصد لوجدناها جميعها تخدم الإنسان وحياته على الأرض ، وهي تؤدي إلى حفظ النفس ، وحفظ النفس يعني احترامها وصيانتها من كل ما يتلفها ودفع الأذى عنها والموت هو أسوء أذى يمكن إلحاقه بالنفس الإنسانية، وتحقيق هذا المقصد ينبني عليه البحث الجاد عن صيغ جديدة للعقوبة لمنع عقوبة القتل.
ثالثا: العقوبة بالقتل واللاعنف في القرآن
ذكر القتل في القران الكريم لأول مرة في قصة ولدي آدم عندما قتل قابيل أخيه هابيل " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانَاً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاْخَرِ قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَا بِبَاسِط يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَـلَمِينَ "(المائدة:27-28 )
ويلاحظ على هذه القصة ثلاث ملاحظات أساسية تدفعنا إلى إعادة النظر بموضوع القتل والعنف على وجه العموم.
أ- أن الأخ المقتول رفض أن يقابل القتل بالقتل والعدوان بالعدوان وهذا يؤكد أن منطق المعاملة بالمثل ليس هو التعبير الأمثل عن القيم الأخلاقية والروحية في الإسلام.
ب- لم يأمر الله آدم وهو نبي الله ووالد المقتول وولي دمه أن يقتص من قابيل بعد قتله لأخيه.
ج- تشير الآية إلى أن الإيمان بالله والخوف منه والذي ينبع من ضمير الإنسان هو الذي يمنع الإنسان من اقتراف جريمة القتل أو مقابلة الشر بمثله.
العقاب والعفو
ذكر القرآن عقوبة القتل إلى جانب حديثه على العفو والتقوى ومنع الفساد وإقامة العدل ،بكل أبعاده النفسية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية.
ولذلك نقول أن عقوبة القتل وإن كانت موجودة في الكتاب والسنة، إلا أن تطبيقها يتوقف على جملة من الشروط والمعطيات إضافة إلى نضج المجتمع ورقيه الأخلاقي والروحي.
كما أعطى الله لأقارب القتيل مجالاً لأن يعفوا ويصفحوا عن القاتل، بل نجد أن القرآن الكريم يحث على الصفح والعفو. ولا شك أن العفو اذا أصبح سمة للمجتمع فإن عقوبة القتل سوف تنتهي.
ويمكن أن نلحظ أن عقوبة القتل في المجتمعات الإنسانية قد تطورت من القتل بغرض الثأر والإنتقام الشخصي إلى القتل بغرض الإنتقام الإجتماعي أوالإلهي إلى البحث عن صيغ جديدة تتجاوز نطاق الثأر والإنتقام وتستوعب الأبعاد النفسية والتربوية.
التوبة تسقط الحد
من المقولات الأساسية التي ينبني عليها تطوير الإجتهاد الإسلامي تجاه إيقاف تنفيذ عقوبة الإعدام مقولة "التوبة تذهب الحد"
وتفتح المقولة الباب واسعاً أمام من قد يستحقون عقوبة القتل للعودة إلى مجتمعهم وحياتهم الإنسانية القويمة ، وذهب بعض العلماء المسلمين إلى هذا القول واستدلوا بأدلة كثيرة منها .
فقال عن عقوبة الزنا: "واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما" ـ وعن حد السرقة، قال:" فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه" ـ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له ـ ومن لا ذنب له لا حد عليه"، وقال في ماعز لما أخبر بهربه: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه"
عن أنس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني زنيت فأقم علي الحد ، ثم أقيمت الصلاة ، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قد كفر عنك بصلاتك[1]
إيقاف الحدود
جاء في كتب الرواية ان عمر بن الخطاب قد اوقف حد السرقة عام الرمادة وذلك لما لحق الناس من جوع وفاقة يصعب معها تحقيق العدالة بين الناس[2] .
ولذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ، ولا يتميز المستغنى منهم والسارق لغير حاجة من غيره ، فاشْتَبَه مَن يَجب عليه الْحَدّ بِمَن لا يجب عليه ، فَدُرِئ"[3] .
وايقاف حد السرقة نتيجة لظروف الواقع الإقتصادي تعني مراعات الأحكام الشرعية للواقع على سبيل العموم ، ومن هنا فإن تغير الفكر القانوني والتربية الاجتماعية التي تتعلق بعقوبة القتل هي أمر معتبر في الشريعة ويجب مراعاته.
إن اللجوء إلى عقوبة القتل غالباً ما يكون ناتجاُ عن الإحساس بالرغبة بالتشفي والإنتقام .ويفترض أن يؤدي رقي الإنسان ونضجه إلى إشاعة قيم العفو والصفح والبحث عن حلول أخرى تنسجم مع هذه القيم .
لا بد الإخذ بالاعتبار أن أي تغيير لا بد أن يبدأ من الداخل ولا بد أن ينسجم مع خصوصيات الدينية والثقاية قبل أن يكون استجابة لمعاهدات خارجية وإتفاقيات دولية أو نتاجا للعولمة الثقافية والقانونية .
القصاص حياة وليس قتل وموت
يقوم مبدأَ العقوبةِ في الإسلام على زجر المجرم وحفظ حياته وحياة غيره ،قال تعالى: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون"، (البقرة:179).
والفرق بين كون القصاص حياة هو انتصار للحياة في حين كان العرب قبل الإسلام ينطلقون من مقولة "القتل أنفى للقتل " والآية تقول: {فِي الْقِصَاصِ} ولم تقل في القتل وهذا يفتح أمام العقل المجال للاجتهاد في صيغ أخرى للقصاص غير القتل.
وما أجمل كلام الرافعي "ومن إعجاز هذه اللفظة أنها باختيارها دون كلمة القتل تشير إلى أنه سيأتي في عصور الإنسانية العالمة المتحضرة عصر لا يرى فيه قتل القاتل بجنايته إلا شرًّا من قتل المقتول؛ لأن المقتول يهلك بأسباب كثيرة مختلفة، على حين أن أخذ القاتل لقتله ليس فيه إلا نية قتله؛ ... التعبير بالقصاص تعبير يدع الإنسانية محلها إذا هي تخلصت من وحشيتها الأولى وجاهليتها القديمة، فيشمل القصاص أخذ الدية والعفو وغيرهما؛ أما المثل فليس فيه إلا حالة واحدة بعينها كأنه وحش ليس من طبعه إلا أن يفترس". [4]
ليس المقصود بالقول بتوقيف عقوبة الإعدام هو مكافأة المجرم أو الاستخفاف بخطورة الجريمة التي اقترفها الجاني أو بمشاعر عائلات الضحايا الذين لن يحيي القتل ميتهم .وإنما المقصود هو البحث عن صيغ مدروسة للعقوبة يكون هدفها الإصلاح وفتح باب التوبة وإعادة التأهيل والمصالحة مع النفس والمجتمع .
الأصل في الأمر الذي اراده الإسلام هو إقرار مبدأ الرحمة والمسامحة بين الناس، والقرآن حث على العفو والصفح ومقابلة الكره بالحب, ، وهذا ما فعله رسول الله عندما فتح مكة وعفا مدينة باكملها .
العدالة المطلقة ليست في هذا العالم وإنما هي "العدالة الممكنة " ولا يتنافى عدم إيقاع القتل على القاتل بسبب عفو أهل المقتول مع العدالة الإلهية النهائية .
ولا يجوز أن يبقى منطق الإنتقام هو الأصل في فكرنا التشريعي وإنما يحب التفكير بالارتقاء بفكرنا القانوني في ضوء القيم الأخلاقية والروحية التي تعميق معاني العفو والمسامحة في النفس والمجتمع .
نعم إن قتل البريء هو جريمة كبرى تستحق العقاب لكن قتل الجاني ليس فضيلة كبرى تستحق الإشادة . وقد يكون قتل الجاني فيه معنى العدالة لكنه يشير في الوقت نفسه إلى العجز عن ايجاد صيغة أخرى لإصلاح الجاني وإعادته إلى الحياة .إن ترك شكل من أشكال العقوبة ،وهو القتل ،لا يعني ترك العقوبة على الإطلاق . كما ان إيقاف عقوبة الإعدام ليس انتصاراً لمنطق العنف والجريمة وانما تقويضا لهذا المنطق من جذوره .
[1] ابن حزم ، المحلى ، ج12 .
[2] ابن قدامة ، المغني 12 / 462-463.
[3] إعلام الموقعين 3/ 14 - 15
[4] الرافعي ، وحي القلم .
|